تعبير " الفوضى البناءة " الذي صمم في معهد " أميركان انتربرايز " الذي يعتبر قلعة المحافظين الجدد، والمهتم بصياغة مشروعات بوش السياسية للشرق الأوسط، يلخص إستراتيجية كاملة أعدت للمنطقة العربية، تهدف إلى إجراء " حملة طويلة من الهندسة الاجتماعية " تفرض بالقوة. وحسب مايكل ليدن، العضو البارز في المعهد، فإن " التدمير البناء هو، صفتنا المركزية "، وبالتالي فإن " الوقت قد حان لكي تصدر الثورة الاجتماعية "،من أجل إعادة صياغة المنطقة العربية عبر تغيير ليس النظم فقط، بل والجغرافية السياسية كذلك، انطلاقاً من رؤية خاصة تقود إلى " تصميم جديد لبناء مختلف ". تستند هذه الرؤية إلى التراث الاستشراقي خصوصاً " برنارد لويس " هذا التراث الذي لا يستطيع أن يرى الوطن العربي إلا بكونه تجمعاً لأقليات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في كيانات دويلاتية وطنية، وإذا كان الشعار هو " قضية الديمقراطية " المرتبطة بمصالح أميركا، فإن تحقيقها كما يفترض، يرتكز على الاستخدام الصريح للطائفية في إطار تلك الاسترتيجية. بحيث أن التنوع الطائفي والديني والإثني الذي يسكن المنطقة العربية، يصبح في حالة تناقض مستحكمة، الأمر الذي يفرض أن يتشكل كل دين وكل طائفة وإثنية في تشكيل سياسي خاص، حسب وضع كل دولة عربية قائمة، وهنا يتحول التنوع إلى كارثة. وتكون الديمقراطية هي منتِج " التدمير الخلاق ". فنشر الديمقراطية، هو الشعار العام الذي حكم السياسة الأمريكية منذ احتلال العراق، استناداً إلى " نظرية الدومينو " التي تعني تدحرج النظم واحدة بعد الأخرى، انطلاقاً من المفاعيل التي أحدثها سقوط النظام في العراق وإعادة رسم الجغرافية السياسية التي تشكلت منذ الحرب العالمية الأولى.[ ]
مما سبق يمكن الاتفاق مع الدكتور محمد الرميحي ،رئيس التحرير، الذي كتب في مقدمة العدد 12 من مجلة "حوار العرب"، في تعريفه للفوضى البناءة في الإطار الشرق أوسطي بأنها " مصطلحٌ أطلقه نظرياً بعض أهل اليمين السياسي الأميركي تجاه مسارات التغيير في الشرق الأوسط، ومفاده أن هذه المجتمعات، وتلك القريبة منها في المنطقة، هي مجتمعات راكدة سياسياً. ولكي يتحرك ركودها، لا بد من إحداث شيء من الفوضى والخلخلة حتى يحصل التغيير، وفي ظنهم، أنه تغيير نحو الأفضل، أو ربما كان تغييراً من أجل التغيير فحسب ". )[ ]
إذا هي عقلية السوق الحرة المطبقة على الجغرافيا السياسية، بمعنى أن إزالة القيود أمام الاقتصاد (دعه يعمل دعه يمر) تسمح مباشرة وبشكل آلي بتنظيم السوق وتأمين المصالح الخاصة والجماعية. كذلك يعتقد أصحاب هذه المدرسة بأن خلق حالة من الفوضى واللاإستقرار سوف يؤدي حكماً إلى بناء نظام سياسي جديد يوفر الأمن والازدهار والحرية. إنه العلاج بالصدمة.
وهذه الخطة تفترض أن المجتمعات تنتظم بشكل بنّاء وصحيح بعد الصدمة التي ولّدتها الفوضى، وهي لا تأخذ بالاعتبار والحسبان ردّات الفعل السلبية.
الغاية التي تحتل المرتبة الأولى في الأهداف الإستراتيجية الأميركية هي الحفاظ على التفوق الأميركي، ولذلك هي تسعى بأي ثمن وبأي وسيلة إلى توفير الاستقرار والازدهار والأمن للمجتمع الأميركي أولاً ومن ثم للحلفاء من جهة وإغراق الآخرين بالفوضى والتخلف والحروب الأهلية. وهذه المعادلة دعت الولايات المتحدة إلى عدم التقيّد بآليات الأمم المتحدة حتى يكون تدخلها الاستباقي مباحاً وأكثر ردعاً وسرعة وتطابقاً مع مصالحها القومية.[ ]
يقول الفيلسوف الروسي الكسندر ربانارين رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة موسكو الحكومية في مؤلفه " الإغواء بالعولمة " : أنه من المقرر استخدام توصيات الدارونية الاجتماعية الاقتصادية على النطاق العالمي. فعند الاستخدام الموسع لـ " صيغة مدرسة شيكاغو " تظهر العالم مكان المؤسسات أو الفئات الاجتماعية المنفصلة غير القادرة على التكيف ( شعوب غير قادرة على التكيف لا ينبغي منحها " قروض التنمية " كي لا تغرق كوكبنا الضيق بمادة بشرية سيئة النوعية. بذلك تغدو الدارونية الاجتماعية الاقتصادية " عنصرية عادية ") . وإذا كان العالم بناءً على هذه النظرية مقسوماً إلى أقلية قادرة على التكيف، وهي تصبح مالكة لموارد الكوكب من غير منازع، وأغلبية منبوذة غير قادرة على التكيف أقصيت عن عملية " الخصخصة - بهدف التنمية والتطور – أفلا ينتظرنا بالتالي خيار العنف القائم على إما عصيان الأغلبية المنبوذة وإما ديكتاتورية " القطب الواحد " العالمية التي تتحضر لقمع هذا العصيان الكامن ... - وتكون النتيجة التي نراها اليوم على أرض الواقع - القبول بنتائج الخصخصة والليبرالية الجديدة أو تحمل ديكتاتورية أمريكا السياسية العالمية، ولكلاهما النتيجة نفسها .[ ]
إن الإدارة الأمريكية تستغل أجواء ما سمته " الحرب ضد الإرهاب " لابتزاز العديد من الدول العربية لإجبارها على تقديم التنازلات التي تتلاءم مع السياسات الأمريكية في المنطقة ، وفي هذا الإطار تتعرض سورية ولبنان للابتزازات والتهديدات الأمريكية- الإسرائيلية ويجري التركيز على نزع سلاح حزب الله الذي استطاع طرد القوات الإسرائيلية عام 2000 ، والواقع أن الهدف الحقيقي لهذه السياسة هو الضغط على سورية ولبنان لتطويعهما وجرهما فلك السياسة الأمريكية وبالتالي الانصياع للترتيبات الأمريكية الإسرائيلية الخاصة بتصفية القضية الفلسطينية والحقوق العربية .[ ]
إن خطة احتلال العراق والضغط على لبنان يستهدفان سورية وابتزازها، حيث وصلت دمشق إلى قناعة مفادها، أنه بعد احتلال العراق، حان الوقت ليبدل " ثعلب الصحراء " قناعه ويخرج بوجه جديد ربما " إسرائيلي " حتى يكمل المشروع الصهيوني من خلال حكومات لبنان أو عبر سورية مباشرة. وبعدها إلى باقي الدول العربية، الكل يعلم في الشرق الأوسط أن إدارة بوش تريد أن تستخدم لبنان كمدخل لتغيير النظام في سورية لأنه يشكل شرطاً ضرورياً لنجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي عاد بوش وأعلنه رسمياً، في شباط 2004. " فسورية مساحتها وسكانها أكبر من لبنان بكثير، وتمتد حدودها كثيراً مع العراق المحتل وهي الدولة الوحيدة - الآن في المنطقة العربية – التي حددتها واشنطن كدولة راعية للإرهاب ومع ذلك ظلت ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية عادية. وعلى الرغم من تعاون سورية الجاد مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالإرهاب، إلا أن هؤلاء الصقور- المحافظون الجدد - الذين تتمركز معاقلهم بصورة أساسية في القيادة العامة للبنتاغون، وفي مكتب ديك تشيني، ظلوا يتهمون سورية بأنها تطور برنامج أسلحة التدمير الشامل، وترفض طرد الفصائل الفلسطينية المقاومة، ويثيرون مسألة إخفاق سورية المزعوم في البنتاغون بالتعاون الكامل مع الاحتلال ليبرروا بذلك انتهاج سياسة " تغيير النظام " بدمشق. على ذلك هم يقولون أن على سورية أن تختار إحدى خيارين : الأول خيار القذافي الذي يعني الخضوع الكامل. والثاني خيار صدام الذي يعني الانتحار السياسي.[ ]
من المثير جداً مراقبة الغرب المتحضر والذي يدعوا إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وهو يحاول زعزعة الاستقرار – عبر الثورات الملونة، البرتقالية في البداية في جورجيا ثم أوكرانيا و قرغيزيا وأخيراً وليس آخراً روسيا البيضاء - ... قد يتمكنون بالفعل من نفخ نار حريق " الثورة " رغم عد صلاحية المادة الخام للاحتراق! قد يتمكنون من استفزاز السلطة ودفعها لاستخدام القوة وتكرار الانتخابات حتى يصل إلى السلطة الشخص الذي يرغبون به حتى ولو كان لا يتمتع بأي تأييد يذكر..، المهم انه يستطيع إخراج عدة آلاف من المتظاهرين إلى الساحات ويمكن أن يحصل على المساعدة المالية من الخارج ... ففي قرغيزيا حصلوا على فوضى في البلاد وفقدان السلطة المركزية لسلطتها على معظم أراضي الدولة.[ ]
لكن السؤال الأبرز والاهم الذي يطرح كيف نقطع الطريق على الفوضى البناءة " الهدامة " : يقطع الطرق عبر ما يسمى بـ " المقاومة الحضارية " أي الإقدام على اصطلاحات سياسية واقتصادية في منطقتنا ذات مغذى وعميقة نعطي الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية دون إهمال الأخيرة، هذه الإصلاحات يجب أن تكون نابعة من الداخل، كتحرير اقتصاد البلاد من التبعية للخارج، وتخليص البلاد من سلبيات الاقتصاد وحيد الجانب، وتحقيق التنمية المستدامة بما يسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة الخل القومي لكن بالوقت نفسه يجب عدم الاضطرار بالاستحقاقات الاجتماعية ، أما الإصلاحات السياسية فتتجلى ببناء دولة المؤسسات وتكريس سيادة القانون، وتعزيز المسار الديمقراطي عبر احترام الرأي الآخر، والفصل بين السلطات الثلاث ووضع قانون ناظم للأحزاب الوطنية اللادينية واللإثنية وإطلاق يد السلطة الرابعة " الإعلام " عبر المكاشفة والشفافية البناءة، وإطلاق أيضاً مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل وفق القواعد والثوابت الوطنية والقومية، كل ذلك على قاعدة الحوار الوطني وليس على قاعدة الفرض والإجبار.[ ]
- لابد من الالتفات إلى الواقع أكثر. حيث يشير واقع منطقة الشرق الأوسط إلى أننا نعيش في دول لم تبلغ المرحلة الرأسمالية بعد، وإن كانت بعض مظاهر الرأسمالية قد نشأت هنا وهناك. ومن الطبيعي ان نجد المجتمع مقسم عمودياً إلى فئات وطوائف ما قبل رأسمالية، أي أن معظم انتماءات شعوب المنطقة هي انتماءات تقليدية ( للطائفة، للعشيرة، للعرق.... الخ ) وذلك على حساب الانتماء للوطن والانتماءات الحديثة السياسية والمدنية. إذا كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن نجد التعبيرات السياسية وحتى المدنية مصبوغة بلون تلك الانتماءات التقليدية، أي أن الشخص يجد أن من مصلحته المحافظة على انتمائه التقليدي وتعبيره السياسي. وكذلك فإن الأكثرية والأقلية في حالاتها الساحقة تكون أكثريات أو أقليات تقليدية وليست سياسية. هذا الواقع يضعنا أمام خيارين إما إنكاره وإقصائه، أو نفيه جدلياً بالاعتراف به وإعطائه المشروعية ومن ثم انتقاده تمهيداً لتجاوزه عملاً بالقاعدة الجدلية الذهنية " عدم تجاوز الشيء قبل امتلاكه " ومن هان يجب الاعتراف بوجود حالة اجتماعية ما، قد تكون مرضية أو لا، ومن ثم محاولة تأطيرها وإعطائها تعبيرات ومواقع قانونية مناسبة – فقط يكون ذلك – ضمن المشاركة في إدارة الشأن السياسي ، ومن ثم محاولة تجاوزها عبر فضح سلبياتها على المجتمع والدول، وطرح بديل عنها ذو ايجابيات ظاهرة وواضحة.
أما الخيار الاقصائي فيتطلب أنكاراً واستنكاراً للطائفية السياسية، ومحاولة فبركة نموذج نظيف ومعقم للحكم الديمقراطي. ولكن هذا الخيار هو شمولية وديكتاتورية بشعار ديمقراطي. وإن محاولة فرض نماذج متخيلة وضبط الشعوب على مقياسها وإنكار حقيقة انتماءات وأماني هذه الشعوب وطمسها وقمعها، ممارسة ديكتاتورية وشمولية بامتياز، وتخفي في أعماقها مشروعاً خفياً لممارسة الطائفية السياسية بشكل سري. هذا الطرح وهذه الممارسة لن تؤديا سوى إلى تقوية الانتماءات التقليدية، وإن لم تعلن عن نفسها بوضوح، واتخاذها أشكال مرضية سواء لدى الحكومة أو الشعب. فتجاهل وجود مشكلة لا يعني سوى أنها ستستفحل أكثر.[ ]
انطلاقاً من فحوى مضمون مقولة بريجنسكي " أن عالم ما بعد سقوط الشيوعية سينقسم إلى مدينة وريف ، ويخطأ من يظن أننا نحن الذين في المدينة نستطيع أن نجعل الموجودين بالريف إلا في حالة فوضى واضطراب " يجب علينا الاعتماد على أنفسنا وقدراتنا ولا نعول الشيء الكثير والهام على الآخرين لأنهم لن يعملوا إلا لصالحهم ولن يلتفتوا إلينا إلا إذا كنا أقوياء قادرين على المواجهة والرفض ولن نكون كذلك إلا عبر نقد تاريخنا وحاضرنا وأنفسنا نقداًً علمياً فعلياً لا نظرياً فقط، نقداً يتجسد على أرض الواقع بالعمل، ذلك عبر تغيير البنى الفكرية، القائمة على الوعي المستورد عبر وسائل الإعلام ، وصولاً لخلق وعي اجتماعي منبثق من مجتمعنا وأوضاعنا، تأسيساً بالنهاية لبلاد عربية قادرة إذا أرادت أن ترى مصلحتها في التضامن والتكامل السياسي والاقتصادي، أن تتوحد ، جاعلة نفسها قوة يحسب حسابها الجميع.
مما سبق يمكن الاتفاق مع الدكتور محمد الرميحي ،رئيس التحرير، الذي كتب في مقدمة العدد 12 من مجلة "حوار العرب"، في تعريفه للفوضى البناءة في الإطار الشرق أوسطي بأنها " مصطلحٌ أطلقه نظرياً بعض أهل اليمين السياسي الأميركي تجاه مسارات التغيير في الشرق الأوسط، ومفاده أن هذه المجتمعات، وتلك القريبة منها في المنطقة، هي مجتمعات راكدة سياسياً. ولكي يتحرك ركودها، لا بد من إحداث شيء من الفوضى والخلخلة حتى يحصل التغيير، وفي ظنهم، أنه تغيير نحو الأفضل، أو ربما كان تغييراً من أجل التغيير فحسب ". )[ ]
إذا هي عقلية السوق الحرة المطبقة على الجغرافيا السياسية، بمعنى أن إزالة القيود أمام الاقتصاد (دعه يعمل دعه يمر) تسمح مباشرة وبشكل آلي بتنظيم السوق وتأمين المصالح الخاصة والجماعية. كذلك يعتقد أصحاب هذه المدرسة بأن خلق حالة من الفوضى واللاإستقرار سوف يؤدي حكماً إلى بناء نظام سياسي جديد يوفر الأمن والازدهار والحرية. إنه العلاج بالصدمة.
وهذه الخطة تفترض أن المجتمعات تنتظم بشكل بنّاء وصحيح بعد الصدمة التي ولّدتها الفوضى، وهي لا تأخذ بالاعتبار والحسبان ردّات الفعل السلبية.
الغاية التي تحتل المرتبة الأولى في الأهداف الإستراتيجية الأميركية هي الحفاظ على التفوق الأميركي، ولذلك هي تسعى بأي ثمن وبأي وسيلة إلى توفير الاستقرار والازدهار والأمن للمجتمع الأميركي أولاً ومن ثم للحلفاء من جهة وإغراق الآخرين بالفوضى والتخلف والحروب الأهلية. وهذه المعادلة دعت الولايات المتحدة إلى عدم التقيّد بآليات الأمم المتحدة حتى يكون تدخلها الاستباقي مباحاً وأكثر ردعاً وسرعة وتطابقاً مع مصالحها القومية.[ ]
يقول الفيلسوف الروسي الكسندر ربانارين رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة موسكو الحكومية في مؤلفه " الإغواء بالعولمة " : أنه من المقرر استخدام توصيات الدارونية الاجتماعية الاقتصادية على النطاق العالمي. فعند الاستخدام الموسع لـ " صيغة مدرسة شيكاغو " تظهر العالم مكان المؤسسات أو الفئات الاجتماعية المنفصلة غير القادرة على التكيف ( شعوب غير قادرة على التكيف لا ينبغي منحها " قروض التنمية " كي لا تغرق كوكبنا الضيق بمادة بشرية سيئة النوعية. بذلك تغدو الدارونية الاجتماعية الاقتصادية " عنصرية عادية ") . وإذا كان العالم بناءً على هذه النظرية مقسوماً إلى أقلية قادرة على التكيف، وهي تصبح مالكة لموارد الكوكب من غير منازع، وأغلبية منبوذة غير قادرة على التكيف أقصيت عن عملية " الخصخصة - بهدف التنمية والتطور – أفلا ينتظرنا بالتالي خيار العنف القائم على إما عصيان الأغلبية المنبوذة وإما ديكتاتورية " القطب الواحد " العالمية التي تتحضر لقمع هذا العصيان الكامن ... - وتكون النتيجة التي نراها اليوم على أرض الواقع - القبول بنتائج الخصخصة والليبرالية الجديدة أو تحمل ديكتاتورية أمريكا السياسية العالمية، ولكلاهما النتيجة نفسها .[ ]
إن الإدارة الأمريكية تستغل أجواء ما سمته " الحرب ضد الإرهاب " لابتزاز العديد من الدول العربية لإجبارها على تقديم التنازلات التي تتلاءم مع السياسات الأمريكية في المنطقة ، وفي هذا الإطار تتعرض سورية ولبنان للابتزازات والتهديدات الأمريكية- الإسرائيلية ويجري التركيز على نزع سلاح حزب الله الذي استطاع طرد القوات الإسرائيلية عام 2000 ، والواقع أن الهدف الحقيقي لهذه السياسة هو الضغط على سورية ولبنان لتطويعهما وجرهما فلك السياسة الأمريكية وبالتالي الانصياع للترتيبات الأمريكية الإسرائيلية الخاصة بتصفية القضية الفلسطينية والحقوق العربية .[ ]
إن خطة احتلال العراق والضغط على لبنان يستهدفان سورية وابتزازها، حيث وصلت دمشق إلى قناعة مفادها، أنه بعد احتلال العراق، حان الوقت ليبدل " ثعلب الصحراء " قناعه ويخرج بوجه جديد ربما " إسرائيلي " حتى يكمل المشروع الصهيوني من خلال حكومات لبنان أو عبر سورية مباشرة. وبعدها إلى باقي الدول العربية، الكل يعلم في الشرق الأوسط أن إدارة بوش تريد أن تستخدم لبنان كمدخل لتغيير النظام في سورية لأنه يشكل شرطاً ضرورياً لنجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي عاد بوش وأعلنه رسمياً، في شباط 2004. " فسورية مساحتها وسكانها أكبر من لبنان بكثير، وتمتد حدودها كثيراً مع العراق المحتل وهي الدولة الوحيدة - الآن في المنطقة العربية – التي حددتها واشنطن كدولة راعية للإرهاب ومع ذلك ظلت ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية عادية. وعلى الرغم من تعاون سورية الجاد مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالإرهاب، إلا أن هؤلاء الصقور- المحافظون الجدد - الذين تتمركز معاقلهم بصورة أساسية في القيادة العامة للبنتاغون، وفي مكتب ديك تشيني، ظلوا يتهمون سورية بأنها تطور برنامج أسلحة التدمير الشامل، وترفض طرد الفصائل الفلسطينية المقاومة، ويثيرون مسألة إخفاق سورية المزعوم في البنتاغون بالتعاون الكامل مع الاحتلال ليبرروا بذلك انتهاج سياسة " تغيير النظام " بدمشق. على ذلك هم يقولون أن على سورية أن تختار إحدى خيارين : الأول خيار القذافي الذي يعني الخضوع الكامل. والثاني خيار صدام الذي يعني الانتحار السياسي.[ ]
من المثير جداً مراقبة الغرب المتحضر والذي يدعوا إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وهو يحاول زعزعة الاستقرار – عبر الثورات الملونة، البرتقالية في البداية في جورجيا ثم أوكرانيا و قرغيزيا وأخيراً وليس آخراً روسيا البيضاء - ... قد يتمكنون بالفعل من نفخ نار حريق " الثورة " رغم عد صلاحية المادة الخام للاحتراق! قد يتمكنون من استفزاز السلطة ودفعها لاستخدام القوة وتكرار الانتخابات حتى يصل إلى السلطة الشخص الذي يرغبون به حتى ولو كان لا يتمتع بأي تأييد يذكر..، المهم انه يستطيع إخراج عدة آلاف من المتظاهرين إلى الساحات ويمكن أن يحصل على المساعدة المالية من الخارج ... ففي قرغيزيا حصلوا على فوضى في البلاد وفقدان السلطة المركزية لسلطتها على معظم أراضي الدولة.[ ]
لكن السؤال الأبرز والاهم الذي يطرح كيف نقطع الطريق على الفوضى البناءة " الهدامة " : يقطع الطرق عبر ما يسمى بـ " المقاومة الحضارية " أي الإقدام على اصطلاحات سياسية واقتصادية في منطقتنا ذات مغذى وعميقة نعطي الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية دون إهمال الأخيرة، هذه الإصلاحات يجب أن تكون نابعة من الداخل، كتحرير اقتصاد البلاد من التبعية للخارج، وتخليص البلاد من سلبيات الاقتصاد وحيد الجانب، وتحقيق التنمية المستدامة بما يسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة الخل القومي لكن بالوقت نفسه يجب عدم الاضطرار بالاستحقاقات الاجتماعية ، أما الإصلاحات السياسية فتتجلى ببناء دولة المؤسسات وتكريس سيادة القانون، وتعزيز المسار الديمقراطي عبر احترام الرأي الآخر، والفصل بين السلطات الثلاث ووضع قانون ناظم للأحزاب الوطنية اللادينية واللإثنية وإطلاق يد السلطة الرابعة " الإعلام " عبر المكاشفة والشفافية البناءة، وإطلاق أيضاً مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل وفق القواعد والثوابت الوطنية والقومية، كل ذلك على قاعدة الحوار الوطني وليس على قاعدة الفرض والإجبار.[ ]
- لابد من الالتفات إلى الواقع أكثر. حيث يشير واقع منطقة الشرق الأوسط إلى أننا نعيش في دول لم تبلغ المرحلة الرأسمالية بعد، وإن كانت بعض مظاهر الرأسمالية قد نشأت هنا وهناك. ومن الطبيعي ان نجد المجتمع مقسم عمودياً إلى فئات وطوائف ما قبل رأسمالية، أي أن معظم انتماءات شعوب المنطقة هي انتماءات تقليدية ( للطائفة، للعشيرة، للعرق.... الخ ) وذلك على حساب الانتماء للوطن والانتماءات الحديثة السياسية والمدنية. إذا كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن نجد التعبيرات السياسية وحتى المدنية مصبوغة بلون تلك الانتماءات التقليدية، أي أن الشخص يجد أن من مصلحته المحافظة على انتمائه التقليدي وتعبيره السياسي. وكذلك فإن الأكثرية والأقلية في حالاتها الساحقة تكون أكثريات أو أقليات تقليدية وليست سياسية. هذا الواقع يضعنا أمام خيارين إما إنكاره وإقصائه، أو نفيه جدلياً بالاعتراف به وإعطائه المشروعية ومن ثم انتقاده تمهيداً لتجاوزه عملاً بالقاعدة الجدلية الذهنية " عدم تجاوز الشيء قبل امتلاكه " ومن هان يجب الاعتراف بوجود حالة اجتماعية ما، قد تكون مرضية أو لا، ومن ثم محاولة تأطيرها وإعطائها تعبيرات ومواقع قانونية مناسبة – فقط يكون ذلك – ضمن المشاركة في إدارة الشأن السياسي ، ومن ثم محاولة تجاوزها عبر فضح سلبياتها على المجتمع والدول، وطرح بديل عنها ذو ايجابيات ظاهرة وواضحة.
أما الخيار الاقصائي فيتطلب أنكاراً واستنكاراً للطائفية السياسية، ومحاولة فبركة نموذج نظيف ومعقم للحكم الديمقراطي. ولكن هذا الخيار هو شمولية وديكتاتورية بشعار ديمقراطي. وإن محاولة فرض نماذج متخيلة وضبط الشعوب على مقياسها وإنكار حقيقة انتماءات وأماني هذه الشعوب وطمسها وقمعها، ممارسة ديكتاتورية وشمولية بامتياز، وتخفي في أعماقها مشروعاً خفياً لممارسة الطائفية السياسية بشكل سري. هذا الطرح وهذه الممارسة لن تؤديا سوى إلى تقوية الانتماءات التقليدية، وإن لم تعلن عن نفسها بوضوح، واتخاذها أشكال مرضية سواء لدى الحكومة أو الشعب. فتجاهل وجود مشكلة لا يعني سوى أنها ستستفحل أكثر.[ ]
انطلاقاً من فحوى مضمون مقولة بريجنسكي " أن عالم ما بعد سقوط الشيوعية سينقسم إلى مدينة وريف ، ويخطأ من يظن أننا نحن الذين في المدينة نستطيع أن نجعل الموجودين بالريف إلا في حالة فوضى واضطراب " يجب علينا الاعتماد على أنفسنا وقدراتنا ولا نعول الشيء الكثير والهام على الآخرين لأنهم لن يعملوا إلا لصالحهم ولن يلتفتوا إلينا إلا إذا كنا أقوياء قادرين على المواجهة والرفض ولن نكون كذلك إلا عبر نقد تاريخنا وحاضرنا وأنفسنا نقداًً علمياً فعلياً لا نظرياً فقط، نقداً يتجسد على أرض الواقع بالعمل، ذلك عبر تغيير البنى الفكرية، القائمة على الوعي المستورد عبر وسائل الإعلام ، وصولاً لخلق وعي اجتماعي منبثق من مجتمعنا وأوضاعنا، تأسيساً بالنهاية لبلاد عربية قادرة إذا أرادت أن ترى مصلحتها في التضامن والتكامل السياسي والاقتصادي، أن تتوحد ، جاعلة نفسها قوة يحسب حسابها الجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق