ما الفوضى الخلاقة؟ ومن أين جاءت؟
يبدو مفهوم “الفوضى الخلاقة” اقرب إلى مفهوم “الإدارة بالأزمات” في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل، ولعل أبسط تعريف للفوضى الخلاقة هو أنها “حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث” ويذكر أن هذا المصطلح وجد في أدبيات الماسونية القديمة، حيث ورد في أكثر من مرجع، كما أشار إليه الباحث الأمريكي “دان براون”. وينسب إلى الأب “ديف فليمنج” بكنيسة المجتمع المسيحي بمدينة بتيسبرج ببنسلفانيا قوله: إن الإنجيل يؤكد لنا أن الكون خلق من فوضى، وأن الرب قد اختار الفوضى ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معرفتنا لكيفية هذا الأمر إلا أننا متيقنون أن الفوضى كانت خطوة مهمة في عملية الخلق.
ويؤكد “مارتن كروزرز” - مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي - أن الفوضى إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات.. فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به.
وفي كتابه عن “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” يقول عالم الاقتصاد شامبيتر: ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك، معتبرًا المنافسة الهدامة تدميراً يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة.
و يعد “مايكل ليدين” العضو البارز في معهد “أمريكا انتربرايز” أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” أو “الفوضى البناءة” أو “التدمير البناء” في معناه السياسي الحالي وهو ما عبر عنه في مشروع “التغيير الكامل في الشرق الأوسط” الذي أعد عام2003م . ارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقًا لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء.
الفوضى الخلاقة بين الفكرة والتخطيط.
تعتمد نظرية “الفوضى الخلاقة” في الأساس على ما أسماه الأمريكي “صموئيل هنتجتون” بـ”فجوة الاستقرار” وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر. فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، ذلك أن مشاعر الاحتقان قد تتحول في أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، ما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب.
أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية؛ فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى هنتجتون أنها ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.
ويرى البعض أن الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين: الأولى صاغها فرانسيس فوكوياما بعنوان “نهاية التاريخ” ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.
المدرسة الثانية صاغها هنتنغتون بعنوان “صراع الحضارات” معتبراً أن النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ذاهبًا إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل. ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.
(دول القلب ودول الثقب)
طور نظرية “الفوضى الخلاقة” أحد أهم المحاضرين في “وزارة الدفاع الأمريكية” وهو البروفيسور “توماس بارنيت” فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز “أمريكا وحلفائها” وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول “الفجوة” أو “الثقب” حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث 11 سبتمبر. يذهب بارنيت إلى أن دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين.
وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط لم تعد مجدية؛ ذلك أن الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين الحكام والمحكومين. ويخلص بارنيت إلى أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجل من انكماش الثقوب وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:”ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك”.
لماذا استراتيجية الفوضى الخلاقة؟
يعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحرية. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد. غير أن ثمة أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى.
نظرة الغرب والعداء للإسلام:
يمثل روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمؤسسة “واشنطن لسياسات الشرق الأوسط” ذات الميول الصهيونية، أحد أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة، وهو من أشد المعجبين بأفكار “برنارد لويس” حيث اقترح ساتلوف إقصاء مصطلحي العالم العربي والإسلامي من القاموس الدبلوماسي الأمريكي، وطالب بالتعامل مع العالم العربي من خلال مقاربة خاصة بكل بلد على حدة ومحاربة الأصولية الإسلامية بلا هوادة.
ويذكر الباحث الأمريكي “مايكل ماكفيل” أنه لم يعد في وسع الولايات المتّحدة الحفاظ على الوضع الراهن فقط، فهي تسعى إلى التغيير السريع، وهذه المهمة يجب أن تكون عدوانية بطبيعتها، وأن العدو الذي يجب تدميره هو أيديولوجي بالدرجة الأولى وهو “الشمولية الإسلامية”.
النفط والسيادة الأمريكية المطلقة
سلم صناع السياسة الخارجية الأمريكية أن التغيير في دول الثقب لم يعد في حد ذاته كافياً، وبالتالي فإن مفهوم السيادة والشأن الداخلي لم يعد شأناً داخليًا بالنسبة لأمريكا؛ طالما ارتبط بالأمن القومي الأمريكي، المرتبط أساسًا بتأمين أقدام أمريكا على حقول النفط العربية وحفظ مصالحها، وبذلك فإن الأوضاع الداخلية لبلدان الثقب تحتاج إلى تحول شامل لن يحدث إلا عبر التدمير الخلاق الذي سينتهي بإزالة الأنقاض ورفع الأشلاء، ثم تصميم نظام سياسي جديد ومختلف، لا يراوغ ولا يشترط ولا يهدد مصالح أمريكا الاقتصادية.
وقد اعتبر ساتلوف أن الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط تقاس على مسطرة المصالح الأمريكية، وكان قد قدم ورقة توحي للإدارة الأمريكية، بتشجيع حالة الغليان وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، طالما أن خلاف الحكام مع المعارضة في دول المنطقة، سيحدث نوعاً من الهدوء والطمأنينة على الساحة الأمريكية. ويؤمن أهدافها الحيوية في بلدان الشرق الأوسط.
خلق الذرائع من أجل إسرائيل
لم تنسَ أمريكا أن صواريخ صدام أقضت مضاجع تل أبيب ذات يوم، وما إن فرغت من حربها المعلنة على الإرهاب في أفغانستان، حتى توجهت نحو العراق دفاعاً عن حقوق الإنسان، والحد من أسلحة الدمار الشامل، وبعد سقوط بغداد في ابريل 2003 احتج العراقيون ضد صمت الإدارة الأمريكية تجاه عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب في العراق، فعلق السيد “رامسفلد” وزير الدفاع الأمريكي على تلك العمليات قائلاً: إنها إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد.
وزيرة الخارجية الأمريكية “كوندوليزارايس” جاء على لسانها أن أمريكا على مدى ستين عاماً سعت إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية، ولم تحقق أياً منهما.. والآن أمريكا تتبنى نهجاً مختلفاً.. إن هناك من يقول: إن الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية الأمريكية المنشودة. وحول أحداث عدم الاستقرار في بعض البلدان العربية صرحت رايس أيضاً لصحيفة “الواشنطن بوست” بالقول: إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية، هي من نوع الفوضى الخلاقة التي قد تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً، ولا شك أن الكيان الصهيوني في الأساس هو المستهدف بذلك الوضع الأفضل الذي قصدته رايس، بينما لن يجنِ العرب أكثر من ويلات الفوضى.
كيف تنفذ أمريكا فوضاها؟
قد تصبح كرة الثلج التي يصنعها طفل صغير كارثة من كوارث الطبيعة التي لا يمكن إيقافها، وأي تغير طفيف يلحق بنظام سياسي مفتوح ومعقد قد يتحول إلى اضطراب هائل يغير ملامح ذلك النظام. لكن أمريكا لن توقف كرة الثلج ولن تخفف من هول الاضطراب حتى وإن كانت قادرة على ذلك؛ طالما أن النتائج ستكون حميدة في النهاية.
وللتحكم بتلك النتائج تخضع عملية تنفيذ الفوضى الخلاقة لأربع مراحل متتابعة:
الأولى: تستهدف خلخلة حالة الجمود والتصلب غير المرغوب في النظام المستهدف.
الثانية: تسعى الوصول إلى حالة من الحراك والفوضى المربكة والمقلقة لذلك النظام.
الثالثة: تهتم بتوجيه تلك الفوضى وإدارتها للوصول إلى الوضع المرغوب فيه.
المرحلة الأخيرة: تشمل استخدام المدخلات التي أججت الفوضى لإخمادها وتثبيت الوضع الجديد بشكله النهائي، إلى جانب الاطمئنان لترسانة القوة العسكرية، والأساطيل الأمريكية في المنطقة، وهي أهم عناصر المعادلة التي تستند إليها الفوضى، ثمة وسائل عديدة لتحقيق تلك الرؤية وتحريك الفوضى الخلاقة بشكل عملي على الساحة الشرق أوسطية، فقد جندت أمريكا الكثير من الإمكانات، والعديد من وسائل الجذب والضغط والإقناع الإيديولوجي، على مختلف الأصعدة الإعلامي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ومن ذلك اتفاقيات التجارة الحرة، والحث على تعديل الدساتير الوطنية، وإنشاء واختراق القنوات الفضائية، والمحطات الإذاعية الناطقة بالعربية، وتقديم خدمات التواصل الإلكتروني المجاني بين أفراد المجتمعات عبر الإيميلات والفيس بوك والمواقع التي تعج بها شبكة الانترنت، والتواصل المكثف مع النشطاء والحقوقيين، والتركيز على بعض المسؤولين الحكوميين والأكاديميين الذين تلقوا تعليمهم في أمريكا، إضافة إلى دعم عدد من أطراف المعارضة في البلدان المستهدفة بشكل فردي أو مؤسسي.. إلى غير ذلك مما يحقق الالتقاء الجماهيري والشعبي مع آراء وميول ووجهات وطموحات أمريكا في المنطقة.
في عام 2004 تحولت قصة (صوت الرعد) إلى فيلم سينمائي يعزز نظرية الفوضى تجاه ما يسمى سياسياً بـ”أثر الفراشة” بمعنى أن الهواء الناتج عن جناح فراشة في الشرق قد يؤدي إلى إعصار ضخم في الغرب. وامتدت هذه النظرية لتغزو أيضا ألعاب الفيديو المصورة وغيرها من أنماط التأثير الفكري.
وفي ذات الإطار دأبت أمريكا على بث مفاهيم تقارن بين الإسلام والإرهاب، تدعمها بشكل مريب تصريحات منسقة ومتزامنة من قبل قيادات تنظيم القاعدة على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، ولم تغفل أمريكا التلويح بملف المرأة والإيحاء بتخلف الإسلام في التعامل مع نصف المجتمع، كما خلقت جبهات عده من أجل حرية التعبير بالمفهوم الغربي كأزمة الرسوم المسيئة للرموز الإسلامية من جهة، ودعم الحريات الشخصية كحقوق الشواذ والمثليين من جهة أخرى، وتدخلت في كثير من الأماكن كداعم لحقوق الإنسان، ومساندة الأقباط ونصرة الأقليات، وحقوق المجتمع المدني، ولعبت أدوارًا خفية هنا وهناك لزرع النزعات والنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية وتشويه صورة المسلمين في عيون الآخرين، وزعزعة القيم الإسلامية داخل المجتمعات المحافظة.
أرادت أمريكا بذلك ولازالت فرض مناخ فكري يخلق لها بيئة آمنة للتواجد المستقر في إطار المجتمعات العربية والإسلامية دون مساعدة أو تدخل النخب الحاكمة لتلك المجتمعات، وربط العالم بشبكة اتصال واحدة من شأنها خلق عقل جمعي مبرمج وفق النمط الغربي، الأمر الذي أدخل الذات الحضارية لمجتمعاتنا في حالة من عدم التوازن، وجعلها قابلة لاختراق الطرح المعولم وفقاً للصيغة الأمريكية البحتة.
يبدو مفهوم “الفوضى الخلاقة” اقرب إلى مفهوم “الإدارة بالأزمات” في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل، ولعل أبسط تعريف للفوضى الخلاقة هو أنها “حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث” ويذكر أن هذا المصطلح وجد في أدبيات الماسونية القديمة، حيث ورد في أكثر من مرجع، كما أشار إليه الباحث الأمريكي “دان براون”. وينسب إلى الأب “ديف فليمنج” بكنيسة المجتمع المسيحي بمدينة بتيسبرج ببنسلفانيا قوله: إن الإنجيل يؤكد لنا أن الكون خلق من فوضى، وأن الرب قد اختار الفوضى ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معرفتنا لكيفية هذا الأمر إلا أننا متيقنون أن الفوضى كانت خطوة مهمة في عملية الخلق.
ويؤكد “مارتن كروزرز” - مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي - أن الفوضى إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات.. فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به.
وفي كتابه عن “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” يقول عالم الاقتصاد شامبيتر: ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك، معتبرًا المنافسة الهدامة تدميراً يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة.
و يعد “مايكل ليدين” العضو البارز في معهد “أمريكا انتربرايز” أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” أو “الفوضى البناءة” أو “التدمير البناء” في معناه السياسي الحالي وهو ما عبر عنه في مشروع “التغيير الكامل في الشرق الأوسط” الذي أعد عام2003م . ارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقًا لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء.
الفوضى الخلاقة بين الفكرة والتخطيط.
تعتمد نظرية “الفوضى الخلاقة” في الأساس على ما أسماه الأمريكي “صموئيل هنتجتون” بـ”فجوة الاستقرار” وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر. فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، ذلك أن مشاعر الاحتقان قد تتحول في أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، ما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب.
أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية؛ فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى هنتجتون أنها ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.
ويرى البعض أن الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين: الأولى صاغها فرانسيس فوكوياما بعنوان “نهاية التاريخ” ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.
المدرسة الثانية صاغها هنتنغتون بعنوان “صراع الحضارات” معتبراً أن النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ذاهبًا إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل. ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.
(دول القلب ودول الثقب)
طور نظرية “الفوضى الخلاقة” أحد أهم المحاضرين في “وزارة الدفاع الأمريكية” وهو البروفيسور “توماس بارنيت” فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز “أمريكا وحلفائها” وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول “الفجوة” أو “الثقب” حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث 11 سبتمبر. يذهب بارنيت إلى أن دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين.
وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط لم تعد مجدية؛ ذلك أن الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين الحكام والمحكومين. ويخلص بارنيت إلى أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجل من انكماش الثقوب وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:”ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك”.
لماذا استراتيجية الفوضى الخلاقة؟
يعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحرية. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد. غير أن ثمة أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى.
نظرة الغرب والعداء للإسلام:
يمثل روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمؤسسة “واشنطن لسياسات الشرق الأوسط” ذات الميول الصهيونية، أحد أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة، وهو من أشد المعجبين بأفكار “برنارد لويس” حيث اقترح ساتلوف إقصاء مصطلحي العالم العربي والإسلامي من القاموس الدبلوماسي الأمريكي، وطالب بالتعامل مع العالم العربي من خلال مقاربة خاصة بكل بلد على حدة ومحاربة الأصولية الإسلامية بلا هوادة.
ويذكر الباحث الأمريكي “مايكل ماكفيل” أنه لم يعد في وسع الولايات المتّحدة الحفاظ على الوضع الراهن فقط، فهي تسعى إلى التغيير السريع، وهذه المهمة يجب أن تكون عدوانية بطبيعتها، وأن العدو الذي يجب تدميره هو أيديولوجي بالدرجة الأولى وهو “الشمولية الإسلامية”.
النفط والسيادة الأمريكية المطلقة
سلم صناع السياسة الخارجية الأمريكية أن التغيير في دول الثقب لم يعد في حد ذاته كافياً، وبالتالي فإن مفهوم السيادة والشأن الداخلي لم يعد شأناً داخليًا بالنسبة لأمريكا؛ طالما ارتبط بالأمن القومي الأمريكي، المرتبط أساسًا بتأمين أقدام أمريكا على حقول النفط العربية وحفظ مصالحها، وبذلك فإن الأوضاع الداخلية لبلدان الثقب تحتاج إلى تحول شامل لن يحدث إلا عبر التدمير الخلاق الذي سينتهي بإزالة الأنقاض ورفع الأشلاء، ثم تصميم نظام سياسي جديد ومختلف، لا يراوغ ولا يشترط ولا يهدد مصالح أمريكا الاقتصادية.
وقد اعتبر ساتلوف أن الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط تقاس على مسطرة المصالح الأمريكية، وكان قد قدم ورقة توحي للإدارة الأمريكية، بتشجيع حالة الغليان وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، طالما أن خلاف الحكام مع المعارضة في دول المنطقة، سيحدث نوعاً من الهدوء والطمأنينة على الساحة الأمريكية. ويؤمن أهدافها الحيوية في بلدان الشرق الأوسط.
خلق الذرائع من أجل إسرائيل
لم تنسَ أمريكا أن صواريخ صدام أقضت مضاجع تل أبيب ذات يوم، وما إن فرغت من حربها المعلنة على الإرهاب في أفغانستان، حتى توجهت نحو العراق دفاعاً عن حقوق الإنسان، والحد من أسلحة الدمار الشامل، وبعد سقوط بغداد في ابريل 2003 احتج العراقيون ضد صمت الإدارة الأمريكية تجاه عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب في العراق، فعلق السيد “رامسفلد” وزير الدفاع الأمريكي على تلك العمليات قائلاً: إنها إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد.
وزيرة الخارجية الأمريكية “كوندوليزارايس” جاء على لسانها أن أمريكا على مدى ستين عاماً سعت إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية، ولم تحقق أياً منهما.. والآن أمريكا تتبنى نهجاً مختلفاً.. إن هناك من يقول: إن الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية الأمريكية المنشودة. وحول أحداث عدم الاستقرار في بعض البلدان العربية صرحت رايس أيضاً لصحيفة “الواشنطن بوست” بالقول: إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية، هي من نوع الفوضى الخلاقة التي قد تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً، ولا شك أن الكيان الصهيوني في الأساس هو المستهدف بذلك الوضع الأفضل الذي قصدته رايس، بينما لن يجنِ العرب أكثر من ويلات الفوضى.
كيف تنفذ أمريكا فوضاها؟
قد تصبح كرة الثلج التي يصنعها طفل صغير كارثة من كوارث الطبيعة التي لا يمكن إيقافها، وأي تغير طفيف يلحق بنظام سياسي مفتوح ومعقد قد يتحول إلى اضطراب هائل يغير ملامح ذلك النظام. لكن أمريكا لن توقف كرة الثلج ولن تخفف من هول الاضطراب حتى وإن كانت قادرة على ذلك؛ طالما أن النتائج ستكون حميدة في النهاية.
وللتحكم بتلك النتائج تخضع عملية تنفيذ الفوضى الخلاقة لأربع مراحل متتابعة:
الأولى: تستهدف خلخلة حالة الجمود والتصلب غير المرغوب في النظام المستهدف.
الثانية: تسعى الوصول إلى حالة من الحراك والفوضى المربكة والمقلقة لذلك النظام.
الثالثة: تهتم بتوجيه تلك الفوضى وإدارتها للوصول إلى الوضع المرغوب فيه.
المرحلة الأخيرة: تشمل استخدام المدخلات التي أججت الفوضى لإخمادها وتثبيت الوضع الجديد بشكله النهائي، إلى جانب الاطمئنان لترسانة القوة العسكرية، والأساطيل الأمريكية في المنطقة، وهي أهم عناصر المعادلة التي تستند إليها الفوضى، ثمة وسائل عديدة لتحقيق تلك الرؤية وتحريك الفوضى الخلاقة بشكل عملي على الساحة الشرق أوسطية، فقد جندت أمريكا الكثير من الإمكانات، والعديد من وسائل الجذب والضغط والإقناع الإيديولوجي، على مختلف الأصعدة الإعلامي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ومن ذلك اتفاقيات التجارة الحرة، والحث على تعديل الدساتير الوطنية، وإنشاء واختراق القنوات الفضائية، والمحطات الإذاعية الناطقة بالعربية، وتقديم خدمات التواصل الإلكتروني المجاني بين أفراد المجتمعات عبر الإيميلات والفيس بوك والمواقع التي تعج بها شبكة الانترنت، والتواصل المكثف مع النشطاء والحقوقيين، والتركيز على بعض المسؤولين الحكوميين والأكاديميين الذين تلقوا تعليمهم في أمريكا، إضافة إلى دعم عدد من أطراف المعارضة في البلدان المستهدفة بشكل فردي أو مؤسسي.. إلى غير ذلك مما يحقق الالتقاء الجماهيري والشعبي مع آراء وميول ووجهات وطموحات أمريكا في المنطقة.
في عام 2004 تحولت قصة (صوت الرعد) إلى فيلم سينمائي يعزز نظرية الفوضى تجاه ما يسمى سياسياً بـ”أثر الفراشة” بمعنى أن الهواء الناتج عن جناح فراشة في الشرق قد يؤدي إلى إعصار ضخم في الغرب. وامتدت هذه النظرية لتغزو أيضا ألعاب الفيديو المصورة وغيرها من أنماط التأثير الفكري.
وفي ذات الإطار دأبت أمريكا على بث مفاهيم تقارن بين الإسلام والإرهاب، تدعمها بشكل مريب تصريحات منسقة ومتزامنة من قبل قيادات تنظيم القاعدة على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، ولم تغفل أمريكا التلويح بملف المرأة والإيحاء بتخلف الإسلام في التعامل مع نصف المجتمع، كما خلقت جبهات عده من أجل حرية التعبير بالمفهوم الغربي كأزمة الرسوم المسيئة للرموز الإسلامية من جهة، ودعم الحريات الشخصية كحقوق الشواذ والمثليين من جهة أخرى، وتدخلت في كثير من الأماكن كداعم لحقوق الإنسان، ومساندة الأقباط ونصرة الأقليات، وحقوق المجتمع المدني، ولعبت أدوارًا خفية هنا وهناك لزرع النزعات والنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية وتشويه صورة المسلمين في عيون الآخرين، وزعزعة القيم الإسلامية داخل المجتمعات المحافظة.
أرادت أمريكا بذلك ولازالت فرض مناخ فكري يخلق لها بيئة آمنة للتواجد المستقر في إطار المجتمعات العربية والإسلامية دون مساعدة أو تدخل النخب الحاكمة لتلك المجتمعات، وربط العالم بشبكة اتصال واحدة من شأنها خلق عقل جمعي مبرمج وفق النمط الغربي، الأمر الذي أدخل الذات الحضارية لمجتمعاتنا في حالة من عدم التوازن، وجعلها قابلة لاختراق الطرح المعولم وفقاً للصيغة الأمريكية البحتة.
هل نجحت أمريكا بجعل الفوضى خلاقة؟
إن إلحاق كلمة الخلاقة كصفة للفوضى يدل على أن المطلوب هو نوع معين من الفوضى، وليست الفوضى على إطلاقها. وفي هذا التصور مخالفة للمنطق وتناقض ومفارقة, فالفوضى لا توصف بأنها خلاقة، بقدر ما تكون مدمرة وهدامة، لكن أنصار الفوضى يرون إمكانية أن تكون خلاقة إذا وجدت وراءها قوى نظامية وتوجيهية معينة تحكمها وتؤطرها، بمعنى أن الفوضى ليست هي الغاية ولا نهاية المطاف بل هي حاله انتقالية مؤقتة إلى حالة مثالية دائمة.
غير أن تحقيق استراتيجية أمريكا الجديدة لم تكن بالأمر الهين فليس من السهل إخضاع المجتمع العربي والإسلامي لعملية الفوضى الخلاقة خلال عشر سنوات، كما أراد أصحاب النظرية، وهو ما جعل بريجينسكي يقول: إن تغيير الشرق الأوسط سيكون مهمة أكثر تعقيداً بكثير من ترميم أوروبا بعد الحربين العالميتين، فالترميم الاجتماعي يبقى أسهل من التغيير الاجتماعي، ولذلك لابد من التعامل مع التقاليد الإسلامية، والمعتقدات الدينية، والعادات الثقافية، بصبر واحترام، قبل القول بأن أوان الديمقراطية قد آن في الشرق الأوسط.
يذهب البعض إلى أن إدارة الشؤون العربية في كل دولة على حدة، تعاني أصلاً من فوضى مدمرة، وبالتالي من السهل أن يتسرب أياً كان إلى الفضاء السياسي العربي والتآمر عليه، فكيف إذا كان الأمر يتصل بدولة عظمى تملك تاريخاً طويلاً في السيطرة على العالم وإدارته. وثمة من يرى أن الفوضى الخلاّقة تعبر عن تغطية للفشل الأمريكي، فالفوضى لم تكن ولن تكون خلاقة أو بنّاءة، بأي شكل من الأشكال، إلا إذا كان المقصود بالخلاقة هنا أي التي تصب في مصلحة أمريكا، وبذلك تكون بنّاءة وخلاقة للولايات المتّحدة ولكنها هدّامة ومدمرة للجميع. وهو ما يعكسه المثل العربي الشهير: “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
ما دورنا تجاه تلك الفوضى؟
تفرض علينا تلك الفوضى، إدراك أهدافها ومآربها الحقيقية، سواء كنا أفرادًا أو مجتمعات أو دولاً وحكومات عربية أو إسلامية، ولنا فيما حدث ويحدث اليوم في أفغانستان، والعراق، ولبنان، والسودان، وتونس، ومصر، وفلسطين، وما يعكر الأجواء السياسية والاجتماعية في بلدنا الغالي، وغيره من البلدان، لنا فيه عبرة كبيرة ودروس لابد من فهمها، وبالتالي امتلاك القدرة على سد الثغرات التي تتسلل إلينا من خلالها سموم صناع الفوضى. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بطرق وفتح أبواب التسامح بين فئات وشرائح المجتمعات العربية والإسلامية، بمختلف توجهاتها الفكرية والمذهبية والسياسية، على أسس وطنية متمسكة بثوابت لا يمكن التفريط فيها تحت أي ظرف من الظروف، وقبل هذا وذاك يتطلب الأمر من الأنظمة السياسية التي تواجه حالات من الاحتقان الاجتماعي والسياسي أن تتصالح مع مواطنيها، مدركة أن توطيد العلاقة بالمحكومين أصبح أجدى من توطيدها مع الولايات المتحدة - التي غيرت استراتيجيتها بالتخلي عن معظم الأنظمة - وأن تتخذ تلك الأنظمة خطوات عملية لتقديم ما يمكن تلبيته من مطالب الشعوب، على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والإنصات الصادق لمختلف أطراف العمل السياسي، والقوى المؤثرة على الساحة الوطنية، وبما يحول دون نجاح أي مشاريع، قد تستهدف أمن الأوطان والسكان وقلب الأنظمة، وإعادة صياغتها بشكل يجعلها مسلوبة الإرادة والسيادة، ومهددة في معتقداتها وقيمها الأخلاقية والثقافية، وعاداتها وتقاليدها الإنسانية.
إن إلحاق كلمة الخلاقة كصفة للفوضى يدل على أن المطلوب هو نوع معين من الفوضى، وليست الفوضى على إطلاقها. وفي هذا التصور مخالفة للمنطق وتناقض ومفارقة, فالفوضى لا توصف بأنها خلاقة، بقدر ما تكون مدمرة وهدامة، لكن أنصار الفوضى يرون إمكانية أن تكون خلاقة إذا وجدت وراءها قوى نظامية وتوجيهية معينة تحكمها وتؤطرها، بمعنى أن الفوضى ليست هي الغاية ولا نهاية المطاف بل هي حاله انتقالية مؤقتة إلى حالة مثالية دائمة.
غير أن تحقيق استراتيجية أمريكا الجديدة لم تكن بالأمر الهين فليس من السهل إخضاع المجتمع العربي والإسلامي لعملية الفوضى الخلاقة خلال عشر سنوات، كما أراد أصحاب النظرية، وهو ما جعل بريجينسكي يقول: إن تغيير الشرق الأوسط سيكون مهمة أكثر تعقيداً بكثير من ترميم أوروبا بعد الحربين العالميتين، فالترميم الاجتماعي يبقى أسهل من التغيير الاجتماعي، ولذلك لابد من التعامل مع التقاليد الإسلامية، والمعتقدات الدينية، والعادات الثقافية، بصبر واحترام، قبل القول بأن أوان الديمقراطية قد آن في الشرق الأوسط.
يذهب البعض إلى أن إدارة الشؤون العربية في كل دولة على حدة، تعاني أصلاً من فوضى مدمرة، وبالتالي من السهل أن يتسرب أياً كان إلى الفضاء السياسي العربي والتآمر عليه، فكيف إذا كان الأمر يتصل بدولة عظمى تملك تاريخاً طويلاً في السيطرة على العالم وإدارته. وثمة من يرى أن الفوضى الخلاّقة تعبر عن تغطية للفشل الأمريكي، فالفوضى لم تكن ولن تكون خلاقة أو بنّاءة، بأي شكل من الأشكال، إلا إذا كان المقصود بالخلاقة هنا أي التي تصب في مصلحة أمريكا، وبذلك تكون بنّاءة وخلاقة للولايات المتّحدة ولكنها هدّامة ومدمرة للجميع. وهو ما يعكسه المثل العربي الشهير: “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
ما دورنا تجاه تلك الفوضى؟
تفرض علينا تلك الفوضى، إدراك أهدافها ومآربها الحقيقية، سواء كنا أفرادًا أو مجتمعات أو دولاً وحكومات عربية أو إسلامية، ولنا فيما حدث ويحدث اليوم في أفغانستان، والعراق، ولبنان، والسودان، وتونس، ومصر، وفلسطين، وما يعكر الأجواء السياسية والاجتماعية في بلدنا الغالي، وغيره من البلدان، لنا فيه عبرة كبيرة ودروس لابد من فهمها، وبالتالي امتلاك القدرة على سد الثغرات التي تتسلل إلينا من خلالها سموم صناع الفوضى. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بطرق وفتح أبواب التسامح بين فئات وشرائح المجتمعات العربية والإسلامية، بمختلف توجهاتها الفكرية والمذهبية والسياسية، على أسس وطنية متمسكة بثوابت لا يمكن التفريط فيها تحت أي ظرف من الظروف، وقبل هذا وذاك يتطلب الأمر من الأنظمة السياسية التي تواجه حالات من الاحتقان الاجتماعي والسياسي أن تتصالح مع مواطنيها، مدركة أن توطيد العلاقة بالمحكومين أصبح أجدى من توطيدها مع الولايات المتحدة - التي غيرت استراتيجيتها بالتخلي عن معظم الأنظمة - وأن تتخذ تلك الأنظمة خطوات عملية لتقديم ما يمكن تلبيته من مطالب الشعوب، على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والإنصات الصادق لمختلف أطراف العمل السياسي، والقوى المؤثرة على الساحة الوطنية، وبما يحول دون نجاح أي مشاريع، قد تستهدف أمن الأوطان والسكان وقلب الأنظمة، وإعادة صياغتها بشكل يجعلها مسلوبة الإرادة والسيادة، ومهددة في معتقداتها وقيمها الأخلاقية والثقافية، وعاداتها وتقاليدها الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق