من يجرؤ على محاكمة الغنوشي
مؤمن بسيسو : كاتب صحفي فلسطيني يقيم في مدينة غزة.
نستغرب تماما خفّة وسذاجة وجهالة البعض، وندين ارتكاس وهبوط وتردّي البعض الآخر، في التعاطي مع تصريحات الشيخ راشد العنوشي الزعيم التاريخي لحركة النهضة التونسية، الذي نقلت عنه صحيفة "تايمز" البريطانية قبل عدة أيام أن حركته لن تحظر الخمور أو تمنع النساء من ارتداء... لباس البحر الفاضح في الشواطئ، في حال وصولها إلى السلطة، حفاظا على تونس كوجهة سياحية.
قبل أن يجرؤ أحد على محاكمة الغنوشي أو التطاول عليه والمساس بمكانته الاعتبارية وقيمته التاريخية وقامته الفكرية ورمزيته السياسية، ينبغي له الرجوع إلى تصريحات الغنوشي بحرفيتها، وعدم الركون إلى النقل المختصر الذي أوردته وسائل الإعلام، تجنبا لقدح الرجل بما ليس فيه، وتلافيا لإساءة وتشهير لا يليق بشخصية أفنت عمرها في خدمة دينها ودعوتها وقضية شعبها وأمتها.
تصريحات الغنوشي أُخرجت قسرا عن سياقها الموضوعي، فالرجل لم يُبِحْ الخمور، أو لباس البحر الفاضح، بل شدد على حرمتها، ولم يُطِحْ بثوابت العقيدة ومحرمات الشرع كما سوّغ البعض لنفسه زعما وادعاءً، وكلّ ما قاله أننا أصحاب منهج ديني وسطي، ولا نستطيع أن نقهر الناس على تبني قناعاتنا ومبادئنا بالقوة، وسبيلنا إلى ذلك الإقناع وليس القوة.
لم يتحدث الغنوشي عن إقامة دولة إسلامية في تونس، بل تحدث عن فرضية وصول "النهضة" إلى السلطة، والفرق بين الحالتين واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، بل إن بينهما، وما يترتب عليهما من أحكام والتزامات، ما بين المشرق والمغرب.
الغنوشي ليس غرّا ساذجا يلهو في عالم الفكر والسياسة حتى يسقط في بدهيات الشرع والدين، إذ أن مطالعة كتابات الرجل، والاستماع إلى أحاديثه، تُنبؤك عن مفكر مجتهد، وسياسي مخضرم، ذو عقل فذّ وذهن صاف وأفق واسع، وصاحب مشروع حضاري ورؤية عصرية مواكبة لقضايا ومشكلات الأمة وسبل استنهاضها لا يُشقّ له غبار.
منذ الخمسينيات رفعنا شعار "دعاة لا قضاة"، وأدركنا معنى "لا إكراه في الدين"، وأيقنّا أن المنهج الوسطي هو الكفيل بالإبحار بنا وسط عواصف الفكر وتعقيدات الواقع إلى شاطئ الاعتدال وبرّ الأمان على مختلف الأصعدة والمستويات.
لم تلتقط تونس أنفاسها بَعْد إثر ثورة الياسمين التي أطاحت برأس نظامها فحسب، فيما بقي النظام جسدا فاعلا يتحكم في تفاصيل واتجاهات الحياة التونسية، ولم تنعم تونس بأجواء الديمقراطية الحقيقية بعد، ولا زال بينها وبين حلم الديمقراطية والحريات مفازة، فما الذي يقصده البعض بالحديث عن الدولة الإسلامية فيما البلاد تعيش مخاض التحول الديمقراطي العسير، وتواصل نضالها المشهود نحو بناء تونس الحرية والكرامة والإرادة الوطنية؟!
يعتقد بعض الجهلاء أن الإسلاميين بمجرد وصولهم إلى الحكم فإنهم سيقيمون الحدود، ويطبقون الأحكام، ويقهرون الناس على تطبيق الدين، وما دَرَوْا أن الدين لم تقم قائمته إلا بالحجة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن الدعوة المتسلحة بقيم الإقناع وأخلاق التعامل الحسن هي وحدها الكفيلة بنشر الدين وتحقيق الأهداف والمفاهيم الإسلامية في واقع الأمة والمجتمع.
الدولة الإسلامية هي في حقيقتها دولة مدنية ذات مرجعية وضوابط إسلامية، وليست دولة دينية كما يحاول بعض الجهلاء أو المرجفين الإيهام والترويج، ولمرحلة الدولة ظروفها وأحكامها، ولكل مرحلة طبيعتها واستحقاقاتها، وهي قطعا لا تخرج بحال عن قيم وضوابط الدين القائمة على الإقناع، وعدم الإكراه في الدين والمعتقد، بهدف حماية المجتمع من الآفات والانحراف.
لا يتسع المجال لكثير تفصيل في هذه القضية، لكن قضايا الفكر والعقيدة أجدر أن يتصدى لها ويعلّق عليها من يفقهها ويفهم حدودها ومضامينها، كي لا يخرج من بين ظهرانينا من يُشهر سيفه البتار بغير علم أو وعي أو دليل، في لحوم أعلامنا ورموزنا ومفكرينا الكبار، بداعي الجهالة والاستعجال، وحتى لا يلتقط بعض المغرضين الذين لا يدركون من الدين إلا اسمه، أنصاف الكلمات، ليمارسوا هوايتهم المتهافتة في تشويه الفكر الإسلامي الوسطي، وتحطيم رموزه الكبرى، وهدم قاماته الشماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق